shape
shape
shape
ANOTHER KING OF RHAPSODY
Peinture par Dorina Costras

بعد تدوينتي الأولى عن الغواية وصلني العديد من التعاليق وفيها من التباين الكثير، على ما دونت، ولقد عزوت ذلك لعدم تعريفي للمفهوم أولا، وعدم وضع إطار له ثانيا، تجعل الفهم واضحا وسالكا لما اريدت له التدوينة.

فآثرت أن أعرف الغواية أولا وأخص بالحديث هنا غواية المرأة للرجل، لأن هناك غواية من الرجل للمرأة إنما تحتاج مني تبصرا أكثر قبل الخوض فيها كما أنها تختلف في أساليبها وأدواتها عن غواية المرأة للرجل والغاية منها.

المعنى هو كل شيء، الدنيا بحث دائم عن المعنى، وهذا من متع السعي، لهو لا يشبه أمثاله في الحياة، أن تفتش عما خفي في كبر الصورة الظاهرة للجميع، أن تبدأ بفك الأحجية وطلاسمها، ألا تخاف من أية معرفة، كيفما كانت، لأن الغاية، الوصول للمعنى.

ولنتوفق في ذلك، علينا أن نبدأ بالبحث من المصدر.
أن نمسك الخيط المؤدي للمنبع أولا، انطلاقا من نقطتنا هاذه واقعنا هذا، ساعتنا هاته، فنرجع إلى الوراء بخطوات ثابتة، متأنية، نتبع الخيط، إلى أن نصل إلى منبع المبحوث عنه، إلى حيثما نجد أصل القصة، وأصل كل معنى أو بداية كل أحجية،

أدركت أن كل المعاني مصدرها واحد / الأساطير خصوصا اليونانية/ والكتب السماوية

The Kiss Painting by Dorina Costras – Fine Art America‏

إن الأساطير اليونانية لهي لوحة ملحمية من صنع البشر ربما، أو وحي لا ندري، إنما وجودها وتواترها عبر الأجيال يبلغنا بكونها كانت حاجة ملحة لفهم بعض من الوجود، لشرح فلسفة النفس الأكثر عمقا، والأكثر تمردا على صاحبه، وتبين للناس مسار كل اختيار ونتائجه على حياة المختارين لكل طريق من الطرق، تفسر أساس كل رغبة، فالدافع الكبير لأمر ما نابع من نقصان داخلي لطالبه (وهذا لا عيب فيه)، إنما معرفة أصل الرغبة الداخلية تجعل من البشرية أكثر وعيا بدواخلها وبالتالي أكثر تفهما وتسامحا مع نفسها و مع غيرها.

أما الكتب السماوية فمن مزامير داوود (لا أريد أن أرجع أكثر من ذلك) إلى القرآن الكريم كانت تلك الكتب هي المنفذ الأوحد على الحياة الأخرى، على الإنسان في العالم الموازي، للتعرف على ما حصل له على الأرض الأخرى، في الحياة الأخرى، على أنفسنا عندما كنا حيث لم نكن، على ما يمكن أن نكون عليه إذا كنا هناك.

بالإضافة إلى ذلك تطرق القرآن والكتب السماوية أيضا لمسائل النفس خصوصا، بتشريح دقيق، عبر حكم وعبر وقصص، للرسل والأنبياء مع أهلهم، ذويهم، قراهم، أعدائهم، لتكون عبرة للبشرية في التعامل مع حالات النفس المختلفة وهي في وعيها الأولي، ومقياس للدراسة ونحن الآن في وعي متقدم مع أدوات بحث متفوقة، تلك العبر صلاحيتها أبدية، بما أن النفس هي هي، وغير متغيرة في ماهيتها.

إن القرآن الكريم لهو كتاب تقويم للإنسان، على السلوك الرشيد، و لجم النفس لكي لا تقع فريسة الغواية في جانبها المظلم (هناك جانب مشرق من الغواية) واساليبها المخدرة للعقل… بالحث على الحشمة و الإبتعاد عن الشبهات بالبقاء في منطقة الإعتدال، بعيدا عن جعله مختزلا في الطقوس المادية، كما هو حاصل الآن.

إن القرآن جاء ليربينا نفسيا و سلوكيا أولا وأخيرا.
ديننا يدعو إلى الإبتعاد عن الشبهات حكمة ودراية (وهي الحالة الفاضلة) التي جاء الاسلام ليقومنا عليها بغية النجاة من جهة، مع عدم الإبتعاد عن طيب العيش من جهة أخرى، عن الحشمة وهي التعفف عن كل خوض ينقص من الإنسان وما تأباه الكرامة، وهذه من أسس النفس السوية، عوض التشدد في الشكليات فقط، هذه التربية الدينية النفسية هي من تبعدنا عن السقوط في شباك الغواية لما لها ما بعد السقطة.

هذا المفهوم توارى كثيرا أمام الطقوس (الابتعاد عن كل شبهة) به يصنع  المرء حدودا معقولة ومعتدلة….فتم التخلي عنها لصالح الإفراط في الشكليات الهامشية من الدين.

نعود لموضوعنا الغواية، وقد اخترت استهلال التعريف بها، بسرد أسطورة، ورواية دينية، ليتجلى لنا بعض من المعنى المخفي عن أصل الغواية وطريقة التفافها على طريدتها.

-اخترت من الأساطير: “السيرينيات

Dorina Costras, 1967 | Surrealist Figurative painter | Tutt’Art …‏

الأسطورة اليونانية \”السيرينيات\” عن حكاية الأوديسا الشهيرة التي تحكي عن البطل الإغريقي \”أوديسوس\” أثناء رحلة عودته من حرب طروادة (وقد كابد الكثير من الصعاب أثناء رحلة الرجوع) فبينما هو مبحر إلى بلده، قبيل العبور من منطقة خليج بحري تسكنه، \”السرينيات\” وهي مجموعة من حوريات البحر، هن مغنيات لهن أجنحة طيور وأجساد بشرية مع صوت عذب هو لآلتهن للغواية، مخدر للجهاز العصبي، لا بد لسامعه أن يفقد السيطرة على نفسه فيخضع لهن مجبورا ومسلوبا ويتبعهن إلى قاع البحر، حيث لا رجوع لمن نزل.

كان اوديسوس فطنا لذلك، فأمر بحارته أن يشمعوا اذانهم حماية لهم من غواية صوت \”السرينيات\” المؤدي لسوء المصير، إنما هو لم يفعل ما أمر به رجاله، بل أراد أن يسمع غناء الغاويات مع التفكير في حماية نفسه من أي ثأثير، فما كان إلا أن طلب من بحارته أن يكبلوه في آخر السفينة بالاغلال الغليضة تمنعه من اللحاق بهن عند سماع عزفهن.

وهكذا كان، قام البحارة بما أمر أوديسوس، شمعوا آذانهم، وربطوا قائدهم بالأغلال في آخر السفينة كما أمروا، فما كان منه بعد سماع الغناء القادم من قاع الخليج، إلا الهيجان والثورة على ما لجم به، يهيم بقطعها من شدة ثورته…ضرب البحارة الذين حاولوا ثنيه على الانعتاق للذهاب حيث \”السرينيات\”، لكنهم في نهاية المطاف استطاعوا أن يلجموه إلى أن عبروا بسلام.

Dorina Costras – My magical world – Musetouch Visual Arts Magazine‏

-أما بالنسبة لغواية الشيطان، فإنها غواية ملاك لبشر،
غواية طاقة نار لطاقة صلصال.
جذرها الحسد والغيرة من المكانة و الحضوة لآدم عند رب الناس.
هدفها إنزاله إلى منزلة أقل.

بدأت الحكاية بعد سجود الملائكة لآدم- عليه السلام- طوعا لأمر الله وبعد أن علم الله لآدم الأسماء كلها، وعرضها على باقي الملائكة، إلا إبليس، أبى واستكبر، فما كان منه إلا أن خطط لفخ لآدم وزوجه، بأن وسوس لحواء أن تخالف المحظور (الأكل من الشجرة) بما يجعلها تنتبه للممنوع، الذي لم يكن مرغوبا وتعزز الفضول تجاهه، بعد أن كان الاهتمام به صفرا، هنا أصبحت نفسها هي من استدرجتها، بعد أن زرع الشيطان البذرة وتركها لنفسها. أسرت حواء برغبتها لآدم وأخبرته بوساوسها وحتثه على التذوق من الشجرة المحظورة رضوخا لغواية الشيطان…

-تجمع قواميس اللغة العربية أن الغواية مرادفة للضلالة. و في الوعي الجمعي هي مرتبطة بالغواية الأنثوية ، وهذا مخالف للرواية الدينية، التي تعزي أول غواية قد وقعت في التاريخ هي من كائن نوراني(ليس من البشر (الشيطان)) على أنثى من غير جنسه ( حواء الأنسية) وفي مكان غير الأرض (الجنة) له نظمها وقواعدها الخاصة.

من هنا نفهم إجماع قواميس اللغة على مرادفة الغواية بالضلال، فمنبعها كائن ضال، مهمته التضليل.

كما أنها ليس إنتاجا خالصا للمرأة بل كانت ضحيته من حيث لا تدري، هذه الغواية اختار لها الشيطان حواء عن آدم لسرعة تأثرها، وقدرتها على التأثير على زوجها، إذا ما تأثرت، والعكس صعب جدا، فكانت غواية مخطط لها ومحسوبة بعناية فائقة.

و نتيجة أول غواية في التاريخ هي ما استفتح به آدم وذريته الدنيا…ولا عجب من أخد المعمورة إسم \”دنيا\” للدلالة عليها… لدناءتها وتدني مزلتها عن كل شيئ، غواية واحدة فقط، كانت كافية لتغير كل اللعبة،

مسرح الحياة

قواعد الممات

جعلتنا نعيش في زمن ومكان غير الذي كان، ونكون غير الذي كنا، لتصبح الجائزة أن نعود إلى ما كنا عليه، لكن هذه المرة استحقاقا وليس مسلمة.

وفي الأسطورة كانت الغواية أنثوية بامتياز، مخاطبة غريزة الذكورة، للاستدراج والافتراس أداتها الصوت، هنا الغريزة مستيقظة والعقل نائم فحسب الأسطورة، \”أوديسوس\” كان حاضر الذهن، متيقد الذكاء، عارفا لنتيجة الغواية وذو عقلانية شديدة بما أنه أمر جنوده
بالوقاية المسبقة (تشميع الأذن) لجيشه، ولنفسه خوض الفضول مرفوقا بالآليات الاحترازية للجمه عن كل سوء (ربطه بالأغلال) فهو كامل اليقين أنه إذا مسه من الغواية ذرة…..فصلاة الغائب على العقل.

-الغواية تكون، من غير القادر على القادر.

-الغواية تكون، من غير الموجود لإثبات وجوده.

ليس من الغريب أن تكون الغواية جزءا أصيلا من الطاقة الأنثوية الموجودة في كل امرأة كيفما كانت،

جميلة/ قبيحة.
عادية/ فاتنة،
صغيرة/ كبيرة،
إنما الفرق بين هؤلاء النسوة في نوعية الغواية،أفقرها الاستعراض (أي استعراض مبالغ فيه فهو دعوة للبيع) وأثراها غواية العقل.

المرأة هي من تدخر غوايتها لذكرها المختار من طرفها، لتجعله يحترق كما لم يتوقع ذلك، الغواية بغير حساب مهلكة وملازمة لقليلة الحيلة، إذا ما استخدمتها كسلوك يومي فترجع عليها بالمنقصة، الغواية لها ما بعدها، و التجرأ عليها بغير عقل يفضي إلى غير المبتغى.

في الغواية صنارة و طعم،

الغواية هي تزيين لفعل معين دون الدعوة إليه،

في الغواية مغرر و مغرر به،

الغواية لم تكن يوما شيء اعتباطي، بل مصقولة دائما بوعي.

 

A Heaven For Two, Peinture par Dorina Costras | Artmajeur‏

دمتم….

دعمكم مهم سواء بالاعجاب أو التعليق.

شارك مع الآخرين

أضف تعليقاً