shape
shape
shape

تاريخ الأبطال… من القوة المرفوضة إلى رمــــــــــوز الفخر الشعبــــي (الساموراي/ راعاة البقر)

كثيرًا ما تتغير نظرتنا إلى الأبطال مع مرور الزمن، فالأبطال الذين بدأوا كرموز للقوة المفرغة، حيث لم تُحظَ بطولاتهم بقبول شعبي، وانتهى بهم المطاف كأيقونات تُخلَّد في الذاكرة الجماعية، يحظون بالإعجاب والإجلال، بل ويصبحون مصدر فخر للشعوب. تلك الظاهرة ليست غريبة على التاريخ البشري، فالزمن الذي يمضي وتبدّلات العصور والمجتمعات تجعل من صور البطولة الأولية مجرد تلميحات بسيطة لما ستؤول إليه في نهاية المطاف.
 
إذا نظرنا في هذا السياق إلى تاريخ الساموراي في اليابان، نجد أنه في بداياتهم لم يكن الساموراي يُنظر إليهم كأبطال أو كرموز للشرف والولاء، بل كانت نظرتهم تتأرجح بين الإعجاب بالقوة والهيبة وبين النفور من العنف والانتهازية. لم يولد الساموراي كحماة للنظام أو ممثلين لقيم “البوشيدو”، بل كانت نشأتهم ترتبط بالعصبيات العشائرية وتصفية الحسابات السياسية، إذ كانوا مقاتلين شرسين يخوضون الحروب الأهلية لحساب زعمائهم الإقطاعيين، يتحركون وفقًا للمصالح والولاءات المحدودة.
 
لم يكن الشعب ينظر إلى هؤلاء المحاربين كأبطال يستحقون التمجيد، بل كانت سمعتهم تُذكر بكونهم قساة القلوب، يتعاملون مع الأعداء والخصوم بشراسة بالغة، لا يلتزمون بأي معايير أخلاقية سوى ما يخدم عشيرتهم ومصالحها. إلا أن استقرار اليابان في عصر “إيدو” واستتباب الأمن، أتاح للساموراي فرصة للتنظير لمبادئهم، فظهرت فكرة “البوشيدو” التي من خلالها أعادوا تعريف أنفسهم كرموزٍ للشرف والعدالة والانضباط. هكذا، انقلبت الصورة العامة، وصار الساموراي رمزًا للتضحية والوطنية، حتى في زمن لم يعودوا فيه في مقدمة المعارك، بل انصرفوا إلى الفلسفة والإدارة، وكأنهم تركوا سيوفهم لتحمل عبء ماضيهم، وارتدوا ثياب الحكمة والحلم.
 
أما في الجانب الآخر من العالم، بعيدًا عن تلال اليابان الخضراء، وفي سهول الغرب الأمريكي، نشأت صورة أخرى لبطولة القوة غير المُستساغة شعبيًا. إنهم “الكوبوي” أو رعاة البقر، الذين بزغوا في زمن التوسع الأمريكي نحو الغرب. هؤلاء الرعاة، الذين لم تُكتب لهم النظرة البطولية في بادئ الأمر، كانوا في نظر المجتمع المديني حينذاك خارجين عن القانون، أناسًا يعيشون على هامش المجتمع، يتعاملون بالعنف لتحقيق ما يريدون. لم تكن لهم صورة رومانسية أو أدبية، بل كانت ترتبط بهم روايات الخروج عن النظام والاستيلاء على الأراضي، ومناصرة من يدفع أكثر. كانت شخصياتهم أكثر قربًا من قطّاع الطرق منها إلى الأبطال.
 
لكن مع انقضاء فترة النزاعات الداخلية وبروز حاجة ملحّة لدى المجتمع الأمريكي لرواية تُجسّد شجاعته ومغامرته في تشكيل هويته، تحول هؤلاء الرعاة من مجرد حراس للماشية وخارجين عن القانون، إلى أبطال شعبيين يمثلون روح الحرية والفردانية الأمريكية. لم يعد الكوبوي مجرد رمز للقوة الجسدية فقط، بل أضحت أفعاله تُرى من زاوية أخرى: زاوية البطولة المتجسدة في مواجهة المخاطر، في العيش وفقًا لقوانين الطبيعة القاسية، وفي القدرة على حماية المستضعفين. السينما الأمريكية لعبت دورًا محوريًا في هذا التحول، إذ نسجت قصصًا تُظهر هؤلاء الرعاة كمقاتلين شرفاء، يقفون في وجه الظلم، يدافعون عن الضعفاء، ويضحّون بأنفسهم في سبيل العدالة. وهكذا، أصبحت القوة التي كانت يومًا ما مرفوضة، علامة للفخر والاعتزاز، وصار الكوبوي جزءًا لا يتجزأ من الأسطورة الوطنية الأمريكية.

كيف يعاد تشكيل الأساطيــــــــــر عبر الزمن ؟

 

 
إذن، فإن هذا التحوّل في النظرة إلى البطولة، من رفض شعبي إلى أسطورة، يرتبط أساسًا بقدرة المجتمعات على إعادة صياغة الماضي وفقًا لاحتياجات الحاضر. إن أبطال الأمس، الذين كانوا في موضع شكّ وريبة، يتحولون بفعل الرواية والتاريخ إلى حُماة للقيم الأسمى، وإلى حكايات تُسرد لتُلهِم الأجيال القادمة. في النهاية، ليست البطولة هي القوة بحد ذاتها، وإنما في كيف تُروى هذه القوة وكيف تُفهم، وكيف يتحوّل ما كان يومًا مرفوضًا إلى ما يُعانق اليوم بطيات الفخر والعزة في ذاكرة الشعوب.
 
ومما لا شك فيه أن القوة، كما أشارت إليها مسارات التاريخ، تفرض نفسها دائمًا في سردية الشعوب، لتصنع من أبسط الشخصيات أساطيرًا خالدة. حين تُكتب القوة، فإنها تنزه صاحبها، ترفعه فوق مستوى الصراعات المؤقتة، وتحوّل أفعاله إلى حكايات تسري في ألسن الناس، حتى يصبح بطله رمزًا حيًا للذاكرة الجماعية. كثيرًا ما يقف الفلاسفة والمفكرون أمام هذه الظاهرة، يحاولون تفكيك معاني القوة والبطولة، يتساءلون هل البطولات التي تُصنع بالقوة مجرد حقائق فُرضت، أم أنها تمتلك بعدًا أعمق يتجاوز عنف البداية إلى تأملات الفضيلة والنبل.

كيف تفاعلت الفلسفة مع تيمة القـــــــــوة؟

 
نيتشه، الذي رأى في القوة محركًا جوهريًا لكل إرادة، أكّد في كتابه “إرادة القوة” على أن البطولات لا تولد إلا من رحم التحدي، من الصراع، وأنها تستمد معناها من قدرتها على تجاوز العادي، على كسر السائد وإعادة تشكيله. هو يرى أن:
القوة هي الحقيقة الأولى، وكل حقيقة أخرى تأتي من بعدها
بمعنى أن الأبطال الذين ترسخت أسماؤهم في الذاكرة التاريخية، ليسوا أولئك الذين بدأوا بطريق السلام، بل من رفعوا السيف وصنعوا من جسارة قلوبهم درعًا ضد المصاعب، ثم ما لبثت هذه القوة أن تجسدت كفضيلة تُنسب لهم، حتى وإن كانت في بدايتها قهرًا لا يرضى به المجتمع.
 
وفي سياق متصل، أشار ميكافيلي في “الأمير” إلى هذه الطبيعة المزدوجة للقوة: القوة التي تبدأ بطغيان وتتطور إلى حكمة، حيث يُنظَر إلى الحاكم أو الفاتح، الذي استخدم القوة لترسيخ سلطته، في نهاية المطاف على أنه نموذج للحكمة والدهاء. يقول ميكافيلي: “
الغاية تبرر الوسيلة
هذه العبارة تلخّص كيف تنظر المجتمعات إلى أفعال القوة في البدايات على أنها ضرورية، وأنها مع الزمن تغتسل من أثامها لتظهر بمظهر الضرورة الأخلاقية. فالبطل، كما يُفهم من ميكافيلي، هو من يتجاوز الحواجز الأخلاقية الأولى، ليؤسس حكمًا يستقر، ومجتمعًا يقدّر قوة البدايات، ويعترف بفضائل الاستقرار الناتج عنها.
 
أما الفيلسوف الفرنسي سارتر، فقد قدّم قراءة مختلفة للبطولة والقوة، حين رأى أن الإنسان الحر هو من يختار فعله بحرية دون أن تُستعبَد إرادته تحت ضغط الأيديولوجيات، لكن الحرية التي يتحدث عنها سارتر تأتي مع القوة التي تفرض الاحترام وتخلق مساحة للفعل. يقول سارتر في “الوجود والعدم” إن
البطولة الحقيقية هي أن تكون قادرًا على اتخاذ القرار وسط الفوضى
وهي إشارة إلى تلك اللحظة التي يفرض فيها البطل قوته الذاتية على العالم من حوله، دون أن يكون بالضرورة موضع قبول أو إعجاب في بادئ الأمر، بل يكفيه أنه هو من قرر وحمل مسؤولية هذا القرار.
 
وعليه، فإن تحول الساموراي أو رعاة البقر، من مجرد رجال قوة إلى أبطال أسطوريين. يجد أساسه في تلك اللحظة التي تفرض فيها القوة وجودها، ثم تتنزه بعد ذلك في قصص الحكمة والأخلاق. المجتمع الذي كان يومًا يرفض البطش، يعود ليتغنى بمن استطاع كبح هذا البطش وتوجيهه نحو أهداف أسمى. البطولات، في نهاية المطاف، هي سرديات تُكتب من موقع المنتصر، ذاك الذي أجاد استخدام القوة في الوقت المناسب، ثم حوّلها إلى قوة معنوية تُنسب له وحده، دون سواه. في تلك اللحظة فقط، يصبح البطل، كما وصفه هيغل:
روحًا يقف فوق ركام التاريخ
فهو
البطل الذي يصنع قواعد اللعبة، لا الذي يخضع لها
 
إن القوة، إذن، تحظى بتلك القدرة العجيبة على تطهير نفسها بنفسها، على أن تبدأ كشيء منبوذ وتُختم كأيقونة للمجد. فلا تكتفي الشعوب بالاحتفاء بها، بل تُنقِّب في تاريخها لتبحث عن جذور الشرف في حركات القتال، في ضربات السيف، وفي قصص العنف. لهذا السبب، لن تجد مجتمعات اليوم تبتعد عن أبطال الأمس، بل تعيد اكتشافهم في ضوء جديد، تُقدّمهم على أنهم أولياء زمنهم، كأن القوة التي بدأت كعاصفة مدمّرة، تُعطي معنى أعمق لكل ما يتبعها من سكون وطمأنينة.
 
 

شارك مع الآخرين

أضف تعليقاً